فصل: باب عَفْوِ الْمَظْلُومِ

مساءً 6 :57
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب الْمَظَالِمِ وَالْغَصْبِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ رَافِعِي الْمُقْنِعُ وَالْمُقْمِحُ وَاحِدٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب المظالم‏.‏

في المظالم والغصب‏)‏ كذا للمستملي، وسقط ‏"‏ كتاب ‏"‏ لغيره، وللنسفي ‏"‏ كتاب الغصب باب في المظالم‏"‏‏.‏

والمظالم جمع مظلمة مصدر ظلم يظلم واسم لما أخذ بغير حق، والظلم وضع الشيء في غير موضعه الشرعي، والغصب أخذ حق الغير بغير حق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقول الله عز وجل‏:‏ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون - إلى - عزيز ذو انتقام‏)‏ كذا لأبي ذر‏.‏

وساق غيره الآية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مقنعي رءوسهم‏:‏ رافعي رءوسهم، المقنع والمقمح واحد‏)‏ سقط للمستملي والكشميهني قوله‏:‏ ‏"‏ رافعي رءوسهم ‏"‏ وهو تفسير مجاهد أخرجه الفريابي من طريقه وهو قول أكثر أهل اللغة والتفسير وكذا قاله أبو عبيدة في ‏"‏ المجاز ‏"‏ واستشهد بقول الراجز‏:‏ أنهض نحـوي رأسـه وأقنعـا كأنما أبصـر شيئا أطمعا وحكى ثعلب أنه مشترك، يقال أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع إذا طأطأه، ويحتمل أن يراد الوجهان‏:‏ أن يرفع رأسه ينظر، ثم يطأطئه ذلا وخضوعا قاله ابن التين، وأما قوله‏:‏ ‏"‏ المقنع والمقمح واحد ‏"‏ فذكره أبو عبيدة أيضا في ‏"‏ المجاز ‏"‏ في تفسير سورة يس وزاد‏:‏ معناه أن يجذب الذقن حتى تصير في الصدر ثم يرفع رأسه، وهذا يساعد قول ابن التين لكنه بغير ترتيب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد‏:‏ مهطعين مديمي النظر‏.‏

وقال غيره‏:‏ مسرعين‏)‏ ثبت هذا هنا لغير أبي ذر ووقع له هو في ترجمة الباب الذي بعده، وتفسير مجاهد وصله الفريابي أيضا، وأما تفسير غيره فالمراد به أبو عبيدة أيضا فكذا قاله واستشهد عليه، وهو قول قتادة والمعروف في اللغة، ويحتمل أن يكون المراد كلا من الأمرين‏.‏

وقال ثعلب‏:‏ المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع لا يقطع بصره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأفئدتهم هواء يعني جوفا لا عقول لهم‏)‏ وهو تفسير أبي عبيدة أيضا في ‏"‏ المجاز ‏"‏ واستشهد بقول حسان‏:‏ ألا أبلغ أبـا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء والهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، أي لا قوة في قلوبهم ولا جراءة‏.‏

وقال ابن عرفة‏:‏ معناه نزعت أفئدتهم من أجوافهم‏.‏

*3*باب قِصَاصِ الْمَظَالِمِ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ مُهْطِعِينَ مُدِيمِي النَّظَرِ وَيُقَالُ مُسْرِعِينَ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ يَعْنِي جُوفًا لَا عُقُولَ لَهُمْ وَأَنْذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الْأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلَا تَحْسِبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قصاص المظالم‏)‏ يعني يوم القيامة، ذكر فيه حديث أبي سعيد الخدري، وقد ترجم عليه في كتاب الرقاق ‏"‏ باب القصاص يوم القيامة ‏"‏ ويأتي الكلام عليه هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا وَقَالَ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ

الشرح‏:‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ بقنطرة ‏"‏ الذي يظهر أنها طرف الصراط مما يلي الجنة، ويحتمل أن تكون من غيره بين الصراط والجنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ فيتقاصون ‏"‏ بتشديد المهملة يتفاعلون من القصاص، والمراد به تتبع ما بينهم من المظالم وإسقاط بعضها ببعض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ حتى إذا نقوا ‏"‏ بضم النون بعدها قاف من التنقية، ووقع للمستملي هنا ‏"‏ تقصوا ‏"‏ بفتح المثناة والقاف وتشديد المهملة أي أكملوا التقاص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهذبوا‏)‏ أي خلصوا من الآثام بمقاصصة بعضها ببعض، ويشهد لهذا الحديث قوله في حديث جابر الآتي ذكره في التوحيد ‏"‏ لا يحل لأحد من أهل الجنة أن يدخل الحنة ولأحد قبله مظلمة ‏"‏ والمراد بالمؤمنين هنا بعضهم، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وقال يونس بن محمد الخ‏)‏ وصله ابن منده في كتاب الإيمان، وأراد البخاري به تصريح قتادة عن أبي المتوكل بالتحديث، واسم أبي المتوكل علي بن دؤاد بضم الدال بعدها همزة‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏ألا لعنة الله على الظالمين‏)‏ ذكر فيه حديث ابن عمر ‏"‏ يدني الله المؤمن فيضع عليه كنفه ‏"‏ الحديث وسيأتي الكلام عليه مستوفى في التوحيد، وفي كتاب الرقاق الإشارة إليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ

الشرح‏:‏

قوله في هذه الرواية ‏"‏ كنفه ‏"‏ بفتح النون والفاء عند الجميع، ووقع لأبي ذر عن الكشميهني بكسر المثناة وهو تصحيف قبيح قاله عياض‏.‏

ووجه دخوله في أبواب الغصب الإشارة إلى أن عموم قوله هنا ‏"‏ أغفرها لك ‏"‏ مخصوص بحديث أبي سعيد الماضي في الباب قبله‏.‏

*3*باب لَا يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ وَلَا يُسْلِمُهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه‏)‏ بضم أوله يقال‏:‏ أسلم فلان فلانا إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوه، وهو عام في كل من أسلم لغيره، لكن غلب في الإلقاء إلى الهلكة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏المسلم أخو المسلم‏)‏ هذه أخوة الإسلام، فإن كل اتفاق بين شيئين يطلق بينهما اسم الأخوة، ويشترك في ذلك الحر والعبد والبالغ والمميز‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يظلمه‏)‏ هو خبر بمعنى الأمر، فإن ظلم المسلم للمسلم حرام، وقوله‏:‏ ‏"‏ ولا يسلمه ‏"‏ أي لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم، وقد يكون ذلك واجبا وقد يكون مندوبا بحسب اختلاف الأحوال، وزاد الطبراني من طريق أخرى عن سالم ‏"‏ ولا يسلمه في مصيبة نزلت به ‏"‏ ولمسلم في حديث أبي هريرة ‏"‏ ولا يحقره ‏"‏ وهو بالمهملة والقاف، وفيه ‏"‏ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن كان في حاجة أخيه‏)‏ في حديث أبي هريرة عند مسلم ‏"‏ والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن فرج عن مسلم كربة‏)‏ أي غمة، والكرب هو الغم الذي يأخذ النفس، وكربات بضم الراء جمع كربة ويجوز فتح راء كربات وسكونها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن ستر مسلما‏)‏ أي رآه على قبيح فلم يظهره أي للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه، ويحمل الأمر في جواز الشهادة عليه بذلك على ما إذا أنكر عليه ونصحه فلم ينته عن قبيح فعله ثم جاهر به، كما أنه مأمور بأن يستتر إذا وقع منه شيء، فلو توجه إلى الحاكم وأقر لم يمتنع ذلك، والذي يطهر أن الستر محله في معصية قد انقضت، والإنكار في معصية قد حصل التلبس بها فيجب الإنكار عليه وإلا رفعه إلى الحاكم، وليس من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة، وفيه إشارة إلى ترك الغيبة لأن من أظهر مساوئ أخيه لم يستره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ستره الله يوم القيامة‏)‏ في حديث أبي هريرة عند الترمذي ‏"‏ ستره الله في الدنيا والآخرة ‏"‏ وفي الحديث حض على التعاون وحسن التعاشر والألفة، وفيه أن المجازاة تقع من جنس الطاعات، وأن من حلف أن فلانا أخوه وأراد أخوة الإسلام لم يحنث‏.‏

وفيه حديث عن سويد بن حنظلة في أبي داود في قصة له مع وائل بن حجر‏.‏

*3*باب أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما‏)‏ ترجم بلفظ الإعانة، وأورد الحديث بلفظ النصر، فأشار إلى ما ورد في بعض طرقه، وذلك فيما رواه خديج بن معاوية - وهو بالمهملة وآخره جيم مصغر - عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا ‏"‏ أعن أخاك ظالما أو مظلوما ‏"‏ الحديث أخرجه ابن عدي، وأخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من الوجه الذي أخرجه منه البخاري بهذا اللفظ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏انصر أخاك ظالما أو مظلوما‏)‏ كذا أورده مختصرا عن عثمان، وأخرجه الإسماعيلي من طرق عنه كذلك، وسيأتي في الإكراه من طريق أخرى عن هشيم عن عبيد الله وحده وفيه من الزيادة ‏"‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره‏؟‏ قال‏:‏ تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره ‏"‏ وهكذا أخرجه أحمد عن هشيم عن عبيد الله وحده، وأخرجه الإسماعيلي من طرق أخرى عن هشيم عنهما نحوه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏قال يا رسول الله‏)‏ في رواية أبي الوقت في البخاري ‏"‏ قالوا ‏"‏ وفي الرواية التي في الإكراه ‏"‏ فقال رجل ‏"‏ ولم أقف على تسميته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال تأخذ فوق يديه‏)‏ كنى به عن كفه عن الظلم بالفعل إن لم يكف بالقول، وعبر بالفوقية إشارة إلى الأخذ بالاستعلاء والقوة‏.‏

وفي رواية معاذ عن حميد عند الإسماعيلي ‏"‏ فقال يكفه عن الظلم، فذاك نصره إياه ‏"‏ ولمسلم في حديث جابر نحو الحديث وفيه ‏"‏ إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصرة ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ النصر عند العرب الإعانة، وتفسيره لنصر الظالم بمنعه من الظلم من تسمية الشيء بما يؤول إليه، وهو من وجيز البلاغة، قال البيهقي‏:‏ معناه أن الظالم مظلوم في نفسه فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حسا ومعنى، فلو رأى إنسانا يريد أن يجب نفسه لظنه أن ذلك يزيل مفسدة طلبه الزنا مثلا منعه من ذلك وكان ذلك نصرا له، واتحد في هذه الصورة الظالم والمظلوم‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ فيه إشارة إلى أن الترك كالفعل في باب الضمان وتحته فروع كثيرة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ذكر مسلم في روايته من طريق أبي الزبير عن جابر سببا لحديث الباب يستفاد منه زمن وقوعه، وسيأتي ذكره في تفسير المنافقين إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏لطيفة‏)‏ ‏:‏ ذكر المفضل الضبي في كتابه ‏"‏ الفاخر ‏"‏ أن أول من قال‏:‏ ‏"‏ انصر أخاك ظالما أو مظلوما ‏"‏ جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتادوه من حمية الجاهلية، لا على ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول شاعرهم‏:‏ إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم على القوم لم أنصر أخي حين يظلم

*3*باب نَصْرِ الْمَظْلُومِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب نصر المظلوم‏)‏ هو فرض كفاية، وهو عام في المظلومين، وكذلك في الناصرين بناء على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع وهو الراجح، ويتعين أحيانا على من له القدرة عليه وحده إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر، فلو علم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخير، وشرط الناصر أن يكون عالما بكون الفعل ظلما‏.‏

ويقع النصر مع وقوع الظلم وهو حينئذ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه كمن أنفذ إنسانا من يد إنسان طالبه بمال ظلما وهدده إن لم يبذله، وقد يقع بعد وهو كثير ثم أورد المصنف فيه حديثين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدٍ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ فَذَكَرَ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ وَرَدَّ السَّلَامِ وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ وَإِجَابَةَ الدَّاعِي وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ

الشرح‏:‏

حديث البراء في الأمر بسبع والنهي عن سبع فذكره مختصرا وسيأتي الكلام على شرحه مستوفى في كتاب الأدب واللباس إن شاء الله تعالى، والمقصود منه هنا قوله‏:‏ ‏"‏ ونصر المظلوم‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ

الشرح‏:‏

حديث أبي موسى ‏"‏ المؤمن للمؤمن كالبنيان ‏"‏ وسيأتي الكلام عليه في الأدب إن شاء الله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ يشـد بعضه ‏"‏ في رواية الكشميهني يشد بعضهم بصيغة الجمع‏.‏

*3*باب الِانْتِصَارِ مِنْ الظَّالِمِ

لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الانتصار من الظالم، لقوله جل ذكره‏:‏ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم‏.‏

والذين‏)‏ يعني وقوله والذين ‏(‏إذا أصابهم البغي هم ينتصرون‏)‏ أما الآية الأولى فروى الطبري من طريق السدي قال في قوله‏:‏ ‏"‏ إلا من ظلم ‏"‏ أي فانتصر بمثل ما ظلم به فليس عليه ملام، وعن مجاهد ‏"‏ إلا من ظلم ‏"‏ فانتصر فإن له أن يجهر بالسوء، وعنه نزلت في رجل نزل بقوم فلم يضيفوه فرخص له أن يقول فيهم‏.‏

قلت‏:‏ ونزولها في واقعة عين لا يمنع حملها على عمومها‏.‏

وعن ابن عباس المراد بالجهر من القول الدعاء فرخص للمظلوم أن يدعو على من ظلمه، وأما الآية الثانية فروى الطبري من طريق السدي أيضا في قوله‏:‏ ‏{‏والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون‏}‏ قال‏:‏ يعني ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا‏.‏

وفي الباب حديث أخرجه النسائي وابن ماجة بإسناد حسن من طريق التيمي عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ دخلت على زينب بنت جحش فسبتني، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فأبت ‏"‏ فقال لي سبيها‏.‏

فسببتها حتى جف ريقها في فمها فرأيت وجهه يتهلل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال إبراهيم‏)‏ أي النخعي ‏(‏كانوا‏)‏ أي السلف ‏(‏يكرهون أن يستذلوا‏)‏ بالذال المعجمة من الذل وهو بضم أوله وفتح المثناة، وهذا الأثر وصله عبد بن حميد وابن عيينة في تفسيرهما في تفسير الآية المذكورة‏.‏

*3*باب عَفْوِ الْمَظْلُومِ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ باب عفو المظلوم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تبدو خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا‏)‏ ‏(‏وجزاء سيئة سيئة‏)‏ أي وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها إلخ‏}‏ وكأنه يشير إلى ما أخرجه الطبري عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏أو تعفوا عن سوء‏}‏ أي عن ظلم، وروى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏ قال‏:‏ إذا شتمك شتمته بمثلها من غير أن تعتدي ‏{‏فمن عفا وأصلح فأجره على الله‏}‏ وعن الحسن رخص له إذا سبه أحد أن يسبه‏.‏

وفي الباب حديث أخرجه أحمد وأبو داود من طريق عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر‏:‏ ما من عبد ظلم مظلمة فعفا عنها إلا أعز الله بها نصره‏"‏‏.‏

*3*باب الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الظلم ظلمات يوم القيامة‏)‏ أورد فيه حديث ابن عمر بهذا اللفظ من غير مزيد، وقد رواه أحمد من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر وزاد في أوله ‏"‏ يا أيها الناس اتقوا الظلم ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ إياكم والظلم ‏"‏ وأخرجه البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من هذا الوجه وزاد فيه‏:‏ قال محارب أظلم الناس من ظلم لغيره‏.‏

وأخرجه مسلم من حديث جابر في أول حديث بلفظ ‏"‏ اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح ‏"‏ الحديث، مال ابن الجوزي‏:‏ الظلم يشتمل على معصيتين‏:‏ أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من غيرها لأنه لا يقع غالبا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الظلم ظلمات يوم القيامة‏)‏ أورد فيه حديث ابن عمر بهذا اللفظ من غير مزيد، وقد رواه أحمد من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر وزاد في أوله ‏"‏ يا أيها الناس اتقوا الظلم ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ إياكم والظلم ‏"‏ وأخرجه البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من هذا الوجه وزاد فيه‏:‏ قال محارب أظلم الناس من ظلم لغيره‏.‏

وأخرجه مسلم من حديث جابر في أول حديث بلفظ ‏"‏ اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح ‏"‏ الحديث، مال ابن الجوزي‏:‏ الظلم يشتمل على معصيتين‏:‏ أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من غيرها لأنه لا يقع غالبا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئا‏.‏

*3*بَاب الِاتِّقَاءِ وَالْحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَكِّيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن مختصرا مقتصرا منه على المراد هنا، وقد مقدم الكلام عليه مستوفى في أواخر الزكاة‏.‏

*3*باب مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له هل يبين مظلمته‏)‏ ‏؟‏ المظلمة بكسر اللام على المشهور، وحكى ابن قتيبة وابن التين والجوهري فتحها وأنكره ابن القوطية، ورأيت بخط مغلطاي أن القزاز حكى الضم أيضا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ هل يبين ‏"‏ فيه إشارة إلى الخلاف في صحة الإبراء من المجهول، وإطلاق الحديث يقوي قول من ذهب إلى صحته، وقد ترجم بعد باب ‏"‏ إذا حلله ولم يبين كم هو ‏"‏ وفيه إشارة إلى الإبراء من المجمل أيضا، وزعم ابن بطال أن في حديث الباب حجة لاشتراط التعيين، لأن قوله‏:‏ ‏"‏ مظلمة ‏"‏ يقتضي أن تكون معلومة القدر مشارا إليها ا هـ‏.‏

ولا يخفى ما فيه‏.‏

قال ابن المنير‏:‏ إنما وقع في الحديث التقدير حيث يقتص المظلوم من الظالم حتى يأخذ منه بقدر حقه، وهذا متفق عليه، والخلاف إنما هو فيما إذا أسقط المظلوم حقه في الدنيا هل يشترط أن يعرف قدره أم لا‏؟‏ وقد أطلق ذلك في الحديث‏.‏

نعم قام الإجماع على صحة التحليل من المعين المعلوم، فإن كانت العين موجودة صحت هبتها دون الإبراء منها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ إِنَّمَا سُمِّيَ الْمَقْبُرِيَّ لِأَنَّهُ كَانَ نَزَلَ نَاحِيَةَ الْمَقَابِرِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَسَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ هُوَ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ وَاسْمُ أَبِي سَعِيدٍ كَيْسَانُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏من كانت له مظلمة لأخيه‏)‏ اللام في قوله‏:‏ ‏"‏ له ‏"‏ بمعنى على، أي من كانت عليه مظلمة لأخيه، وسيأتي في الرقاق من رواية مالك عن المقبري بلفظ ‏"‏ من كانت عنده مظلمة لأخيه‏"‏، والترمذي من طريق زيد بن أبي أنيسة عن المقبري ‏"‏ رحم الله عبدا كانت له عند أخيه مظلمة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من عرضه أو شيء‏)‏ أي من الأشياء، وهو من عطف العام على الخاص فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها‏.‏

وفي رواية الترمذي ‏"‏ من عرض أو مال‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قبل أن لا يكون دينار ولا درهم‏)‏ أي يوم القيامة، وثبت ذلك في رواية علي بن الجعد عن ابن أبي ذئب عند الإسماعيلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخذ من سيئات صاحبه‏)‏ أي صاحب المظلمة ‏(‏فحمل عليه‏)‏ أي على الظالم‏.‏

وفي رواية مالك ‏"‏ فطرحت عليه‏"‏، وهذا الحديث قد أخرج مسلم معناه من وجه آخر وهو أوضح سياقا من هذا ولفظه ‏"‏ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه وطرح في النار ‏"‏ ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته، فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله تعالى في عباده، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال إسماعيل بن أبي أويس‏:‏ إنما سمي المقبري إلخ‏)‏ ثبت هذا في رواية الكشميهني وحده، وإسماعيل المذكور من شيوخ البخاري‏.‏

*3*باب إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلَا رُجُوعَ فِيهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا حلله من ظلمه فلا رجوع فيه‏)‏ أي معلوما عند من يشترطه أو مجهولا عند من يجيزه، وهو فيما مضى باتفاق، وأما فيما سيأتي ففيه الخلاف‏.‏

ثم أورد المصنف حديث عائشة في قصة التي تختلع من زوجها وسيأتي الكلام عليه في تفسير سورة النساء، ومحمد شيخه هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك‏.‏

ومطابقته للترجمة من جهة إن الخلع عقد لازم فلا يصح الرجوع فيه، ويلتحق به كل عقد لازم كذلك، كذا قال الكرماني فوهم، ومورد الحديث والآية إنما هو في حق من تسقط حقها من القسمة، وليس من الخلع في شيء، فمن ثم وقع الإشكال فقال الداودي‏:‏ ليست الترجمة بمطابقة للحديث، ووجهه ابن المنير بأن الترجمة تتناول إسقاط الحق من المظلمة الفائتة والآية مضمونها إسقاط الحق المستقبل حتى لا يكون عدم الوفاء به مظلمة لسقوطه، قال ابن المنير‏:‏ لكن البخاري تلطف في الاستدلال فكأنه يقول إذا نفذ الإسقاط في الحق المتوقع فلأن ينفذ في الحق المحقق أولى‏.‏

قلت‏:‏ وسيأتي الكلام على هبة المرأة يومها في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا أذن له‏)‏ أي في استيفاء حقه ‏(‏أو أحله‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أو أحل له‏"‏‏.‏

‏(‏ولم يبين كم هو‏)‏ أورد فيه حديث سهل بن سعد في استئذان الغلام في الشرب، وقد تقدم في أول كتاب الشرب، ويأتي الكلام عليه في الأشربة، ومطابقته - وقد خفيت على ابن التين فأنكرها - من جهة أن الغلام لو أذن في شرب الأشياخ قبله لجاز لأن ذلك هو فائدة استئذانه، فلو أذن لكان قد تبرع بحقه وهو لا يعلم قدر ما يشربون ولا قدر ما كان هو يشربه، وسيأتي في كتاب الهبة مزيد لذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ فَقَالَ لِلْغُلَامِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ الْغُلَامُ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا قَالَ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا أذن له‏)‏ أي في استيفاء حقه ‏(‏أو أحله‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أو أحل له‏"‏‏.‏

‏(‏ولم يبين كم هو‏)‏ أورد فيه حديث سهل بن سعد في استئذان الغلام في الشرب، وقد تقدم في أول كتاب الشرب، ويأتي الكلام عليه في الأشربة، ومطابقته - وقد خفيت على ابن التين فأنكرها - من جهة أن الغلام لو أذن في شرب الأشياخ قبله لجاز لأن ذلك هو فائدة استئذانه، فلو أذن لكان قد تبرع بحقه وهو لا يعلم قدر ما يشربون ولا قدر ما كان هو يشربه، وسيأتي في كتاب الهبة مزيد لذلك‏.‏

*3*باب إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إثم من ظلم شيئا من الأرض‏)‏ كأنه يشير إلى توجيه تصوير غصب الأرض، خلافا لمن قال لا يمكن ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ ظَلَمَ مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني طلحة بن عبد الله‏)‏ أي ابن عوف، وكذا هو عند أحمد عن أبي اليمان، زاد الحميدي في مسنده من وجه آخر في هذا الحديث ‏"‏ وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبد الرحمن بن عمرو بن سهل‏)‏ هو المدني، وقد ينسب إلى جده، وقد نسبه المزي أنصاريا ولم أر ذلك في شيء من طرق حديثه، بل في رواية ابن إسحاق التي سأذكرها ما يدل على أنه قرشي، وقد ذكر الواقدي فيمن قتل بالحرة عبد الملك بن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر العامري القرشي وأظنه ولد هذا، وكانت الحرة بعد هذه القصة بنحو من عشر سنين، وليس لعبد الرحمن هذا في صحيح البخاري سوى هذا الحديث الواحد‏.‏

وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق وقد أسقط بعض أصحاب الزهري - في روايتهم عنه هذا الحديث - عبد الرحمن بن عمرو بن سهل وجعلوه من رواية طلحة عن سعيد بن زيد نفسه، وفي مسند أحمد وأبي يعلى وصحيح ابن خزيمة من طريق ابن إسحاق ‏"‏ حدثني الزهري عن طلحة بن عبد الله قال‏:‏ أتتني أروى بنت أويس في نفر من قريش فيهم عبد الرحمن بن سهل فقالت‏:‏ إن سعيدا انقص من أرضي إلى أرضه ما ليس له، وقد أحببت أن تأتوه فتكلموه‏.‏

قال فركبنا إليه وهو بأرضه بالعقيق ‏"‏ فذكر الحديث، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون طلحة سمع هذا الحديث من سعيد بن زيد وثبته فبه عبد الرحمن بن عمرو بن سهل، فلذلك كان ربما أدخله في السند وربما حذفه والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من ظلم‏)‏ قد تقدم من رواية ابن إسحاق قصة لسعيد في هذا الحديث وسيأتي في بدء الخلق من طريق عروة عن سعيد أنه ‏"‏ خاصمته أروى في حق زعمت أنه انتقصه لها إلى مروان ‏"‏ ولمسلم من هذا الوجه ‏"‏ ادعت أروى بنت أويس على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئا من أرضها فخاصمته إلى مروان بن الحكم ‏"‏ وله من طريق محمد بن زيد عن سعيد ‏"‏ أن أروى خاصمته في بعض داره، فقال دعوها وإياها ‏"‏ وللزبير في ‏"‏ كتاب النسب ‏"‏ من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، والحسن بن سفيان من طريق أبي بكر بن محمد بن حزم ‏"‏ استعدت أروى بنت أويس مروان بن الحكم وهو والي المدينة على سعيد بن زيد في أرضه بالشجرة وقالت‏:‏ إنه أخذ حقي، وأدخل ضفيرتي في أرضه ‏"‏ فذكره‏.‏

وفي رواية العلاء ‏"‏ فترك سعيد ما ادعت ‏"‏ ولابن حبان والحاكم من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن في هذه القصة وزاد ‏"‏ فقال لنا مروان أصلحوا بينهما‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من الأرض شيئا‏)‏ في رواية عروة في بدء الخلق ‏"‏ من أخذ شبرا من الأرض ظلما ‏"‏ وفي حديث عائشة ثاني أحاديث الباب ‏"‏ قيد شبر ‏"‏ وهو بكسر القاف وسكون التحتانية أي قدره، وكأنه ذكر الشبر إشارة إلى استواء القليل والكثير في الوعيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏طوقه‏)‏ بضم أوله على البناء للمجهول‏.‏

وفي رواية عروة ‏"‏ فإنه يطوقه ‏"‏ ولأبي عوانة والجوزقي في حديث أبي هريرة ‏"‏ جاء به مقلده‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من سبع أرضين‏)‏ بفتح الراء ويجوز إسكانها، وزاد مسلم من طريق عروة، ومن طريق محمد بن زيد ‏"‏ أن سعيدا قال اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها ‏"‏ وفي رواية العلاء وأبي بكر نحوه وزاد ‏"‏ قال وجاء سيل فأبدى عن ضفيرتها فإذا حقها خارجا عن حق سعيد، فجاء سعيد إلى مروان فركب معه والناس حتى نظروا إليها وذكروا كلهم أنها عميت وأنها سقطت في بئرها فماتت ‏"‏ قال الخطابي قوله‏:‏ ‏"‏ طوقه ‏"‏ له وجهان‏:‏ أحدهما أن معناه أنه يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه، لا أنه طوق حقيقة‏.‏

الثاني معناه أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين أي فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقا في عنقه انتهى‏.‏

وهذا يؤيده حديث ابن عمر ثالث أحاديث الباب بلفظ ‏"‏ خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين ‏"‏ وقيل معناه كالأول، لكن بعد أن ينقل جميعه يجعل كله في عنقه طوقا ويعظم قدر عنقه حتى يسع ذلك كما ورد في غلظ جلد الكافر ونحو ذلك، وقد روى الطبري وابن حبان من حديث يعلى بن مرة مرفوعا ‏"‏ أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضي بين الناس ‏"‏ ولأبي يعلى بإسناد حسن عن الحكم بن الحارث السلمي مرفوعا ‏"‏ من أخذ من طريق المسلمين شبرا جاء يوم القيامة يحمله من سبع أرضين ‏"‏ ونظير ذلك ما تقدم في الزكاة في حديث أبي هريرة في حق من غل بعيرا جاء يوم القيامة يحمله، ويحتمل - وهو الوجه الرابع - أن يكون المراد بقوله‏:‏ ‏"‏ يطوقه ‏"‏ يكلف أن يجعله له طوقا ولا يستطيع ذلك فيعذب بذلك، كما جاء في حق من كذب في منامه كلف أن يعقد شعيرة، ويحتمل - وهو الوجه الخامس - أن يكون التطويق تطويق الإثم، والمراد به أن الظلم المذكور لازم له في عنقه لزوم الإثم، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألزمناه طائره في عنقه‏}‏ وبالوجه الأول جزم أبو الفتح القشيري وصححه البغوي، ويحتمل أن تتنوع هذه الصفات لصاحب هذه الجناية أو تنقسم أصحاب هذه الجناية فيعذب بعضهم بهذا وبعضهم بهذا بحسب قوة المفسدة وضعفها، وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد حسن من حديث أبي مالك الأشعري ‏"‏ أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع أرض يسرقه رجل فيطوقه من سبع أرضين ‏"‏ وفي الحديث تحريم الظلم والغصب وتغليظ عقوبته، وإمكان غصب الأرض وأنه من الكبائر قاله القرطبي، وكأنه فرعه على أن الكبيرة ما ورد فيه وعيد شديد، وأن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى منتهى الأرض، وله أن يمنع من حفر تحتها سربا أو بئرا بغير رضاه‏.‏

وفيه أن من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة ثابتة وأبنية ومعادن وغير ذلك، وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن يجاوره‏.‏

وفيه أن الأرضين السبع متراكمة لم يفتق بعضها من بعض لأنها لو فتقت لاكتفى في حق هذا الغاصب بتطويق التي غصبها لانفصالها عما تحتها أشار إلى ذلك الداودي‏.‏

وفيه أن الأرضين السبع طباق كالسموات، وهو ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الأرض مثلهن‏}‏ خلافا لمن قال إن المراد بقوله سبع أرضين سبعة أقاليم لأنه لو كان كذلك لم يطوق الغاصب شبرا من إقليم آخر قاله ابن التين‏.‏

وهو والذي قبله مبني على أن العقوبة متعلقة بما كان بسببها، وإلا مع قطع النظر عن ذلك لا تلازم بين ما ذكروه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أروى بفتح الهمزة وسكون الراء والقصر باسم الحيوان الوحشي المشهور، وفي المثل ‏"‏ يقولون إذا دعوا‏:‏ كعمى الأروى ‏"‏ مال الزبير في روايته‏.‏

كان أهل المدينة إذا دعوا قالوا‏:‏ أعماه الله كعمى أروى، يريدون هذه القصة‏.‏

قال‏:‏ ثم طال العهد فصار أهل الجهل يقولون كعمى الأروى، يريدون الوحش الذي بالجبل ويظنونه أعمى شديد العمى وليس كذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبْ الْأَرْضَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا حسين‏)‏ هو المعلم، ومحمد بن إبراهيم هو التيمي، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن، وفي هذا الإسناد ما يشعر بقلة تدليس يحيى بن أبي كثير لأنه سمع الكثير من أبي سلمة، وحدث عنه هنا بواسطة محمد بن إبراهيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبين أناس خصومة‏)‏ لما أقف على أسمائهم، ووقع لمسلم من طريق حرب بن شداد عن يحيى بلفظ ‏"‏ وكان بينه وبين قومه خصومة في أرض، ففيه نوع تعيين للخصوم وتعيين المتخاصم فيه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فذكر لعائشة‏)‏ حذفه المفعول، وسيأتي في بدء الخلق من وجه آخر بلفظ ‏"‏ فدخل على عائشة فذكر لها ذلك‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَخَذَ مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سالم‏)‏ هو ابن عبد الله بن عمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال الفربري‏:‏ قال أبو جعفر‏)‏ هو محمد بن أبي حاتم البخاري وراق البخاري، وقد ذكر عنه الفربري في هذا الكتاب فوائد كثيرة عن البخاري وغيره، وثبتت هذه الفائدة في رواية أبي ذر عن مشايخه الثلاثة وسقطت لغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس بخراسان في كتب ابن المبارك‏)‏ يعني أن ابن المبارك صنف كتبه بخراسان وحدث بها هناك وحملها عنه أهلها وحدث في أسفاره بأحاديث من حفظه زائدة على ما في كتبه هذا منها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أملى عليهم بالبصرة‏)‏ كذا للمستملي والسرخسي بحذف المفعول، وأثبته الكشميهني فقال‏:‏ أملاه عليهم‏.‏

واعلم أنه لا يلزم من كونه ليس في كتبه التي حدث بها بخراسان أن لا يكون حدث به بخراسان، فإن نعيم بن حماد المروزي ممن حمل عنه بخراسان، وقد حدث بهذا الحديث، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريقه‏.‏

ويحتمل أن يكون نعيم أيضا إنما سمعه من ابن المبارك بالبصرة وهو من غرائب الصحيح‏.‏